ندمنا على السكوت مرة ..
وندمنا على الكلام مرارا
إَّن الإنسانَ حين يريدُ أنْ يستجمعَ أفكارَه،
ويراجعَ أعمالَه، ويقيسَ في الحياة أمورَه وأحوالَه،
يجنحُ إلى الصمت،
فالصمتُ سمةٌ من سماتِ المؤمنين
وصفةٌ من صفاتِ العقلاءِ المُفكّرين،
فقالَ تعالى:
((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) ،
فينبغي للعاقلِ المُكلّفِ أن يحفظ لسانه
عن جميع الكلام
إلا كلاما تظهر المصلحة فيه،
ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة
فالإمساك عنه أفضل،
لأنه قد يجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه
فعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْه-
عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر
فليقل خيراً أو ليصمت))،
فمن نطق في غير خير فقد لغا،
ومن نظر في غير اعتبار فقد سها،
ومن سكت في غير فكر فقد لها،
إن الكلمة أحرف ينطق بها اللسان،
يوزن بها الإنسان، فالمرء مخبوء تحت لسانه
فهو في حال
صمته يعسر الحكم عليه،
فإن تكلم ظهر أمره وبان،
وعُرفت شخصيتُه
من خلال اللسان،
إن كان فارغاً أو كان ذا قدر وشأن،
إن الشيء الكامن في النفس يظهرُ
على صفحات الوجه
وفلتات اللسان،
فالعاقل هو الذي يتحرى الكلمة
قبل أن ينطق بها
فما أحسن حفظ اللسان،
والإنسان لو حفظ لسانه ما هلك، قال أحدهم:
الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع،
وإن أكثرت منه قَتَل.
إن المؤمن الصادق هو الذي يعيش في حذر دائم
من فلتات لسانه فيجعل عمله كثيراً، وكلامه قليلاً
وذلك خيرٌ له،
فكثير الكلام يندم على كثرة كلامه،
ولن يندم صامت على صمته في الغالب،
فالعمل يكثر أو يقل بمقدار كثرة الكلام أو قلته
فكثير الكلام قليل العمل،
وقليل الكلام كثير العمل،
فعلى المؤمن إن تكلم أن يتكلم بما يعود بالفائدة عليه
وعلى مجتمعه ووطنه
يقول اللسان كل صباح وكل مساء للجوارح:
كيف أنتن؟
فيقلن: بخير إن تركتنا
إن الكلام التافه مضيعة للعمر، وهدرٌ للوقت
في غير ما خلق الإنسان له من جِدٍ وإنتاج،
فإن تكلّم المرء فليقل خيراً، وليعودِّ لسانه الجميل
من القول،
فإن التعبير الحسن عما يجول في النفس
أدب عال أدب الله به عباده المؤمنين،
قال تعالى:
((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً))،
إن لصاحب الكلمة الطيبة مكانة عالية ومنزلة
رفيعة عند الله وعند الناس،
فهو عند الله في جنات ونهر،
لأنه لا يتكلم إلا بما يُرضي ربّ البشر،
وهو عند الناس كالنبراس يضئ لهم طريق حياتهم
فيأتون إليه، ويثقون فيه ويستنصحونه
فيكون من عناصر الصلاح في المجتمع،
وما ذلك إلا لكلماته الطيبة، وتعبيراته اللطيفة
قال تعالى:
((قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ))،
وأما الجاهل الشرس الطبع الذي
لا تُلزمه المكارم مروءة
فإنه لا يبالي أن يتعرض للآخرين بما يكرهون
فإذا وجد مجالا يُشبع فيه طبيعته الجهول،
وقلبه الحاقد المغلول، انطلق على وجهه
لا ينتهي له صياح،
فالواجب أن لا يؤخذ بكلامه ولا يُعوّل على أقواله،
فالاستماع إليه في ميزان الإسلام غير مرغوب
وإن كان الإنصات لكلامه مطلوباً،
لوجوب حسن الخلق مع الجميع،
قال بعضهم:
"إذا جالست الجهال فأنصت لهم
وإذا جالست العلماء فأنصت لهم
فإن في إنصاتك للجهّال زيادة في الحِلم
وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم"
إن الإنسان لو شغل بتأديب كل جهول
يلقاه لأعيته الحيل من كثرة ما سوف يلقى،
ولذلك عد القرآن الكريم في أوائل الصفات
التي تحلى بها عباد الرحمن هذه المداراة،
قال تعالى:
((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً
وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)).
إن حد الصمت والكلام المطلوب أن تتكلم فيما يعنيك
فإن سكت عنه لم تأثم،
ولم تستضر به في حال ولا مآل،
وأساس ذلك كله أن تعلم أنك مسؤول
عن كل كلمة، محاسب على كل لفظة،
يقول الله تعالى:
((وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً))،
إن الكلام إن لم يُحصَر بالحاجة،
ولم يُقدّر بالكفاية، لم يكن لحدّه غاية،
ولا لقدره نهاية، قال بعضهم:
"إن الكلام إذا لم يكثر عن قدر الحاجة،
ولم يزد على حدِّ الكفاية، وكان صواباً
لا يشوبه خطل
وسليماً لا يعوده زلل
فهو البيان السحر الحلال"،
ولا يجعل المؤمن دافعه للكلام اشتهاءه
له ورغبته المطلقة فيه،
بل من الحكمة أن تُعقل اللسان
عندما تشتهي الكلام
من غير داع، سأل رجل حكيما فقال:
متى أتكلم؟ قال:
إذا اشتهيت الصمت، فقال:
متى أصمت؟ قال:
إذا اشتهيت الكلام"،
فعلى المؤمن أن يجعل لسانه مصدر خير
وأن يعوده القول الحسن الجميل
الذي يُعمر ولا يدمر
ويبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق.
فاتقوا الله - عِبَادَ اللهِ -
وتخلقوا بخلق الصمت، وتكلموا بقدر
فإن كلام المرء بيان لفضله، وترجمان لعقله
فاقصروه على الجميل، واقتصروا منه على القليل
، وصونوا أوقاتكم وعمروها بذكر الله الحميد المجيد
وكل قول سديد،
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)).
على الإنسان أن يراعى مخارج كلامه
بحسب مقاصده وأغراضه،
فإن كان ترغيبا قرنه باللين واللطف
لا بالخشونة والعنف
فإن لين اللفظ في الترهيب وخشونته
في الترغيب
خروج عن موضعهما، وتعطيل للمقصود بهما
فيصير الكلام لغوا، والغرض المقصود لهوا،
وإلا فالصمت أولى، فمن دلائل الفلاح
ووسائل الرقي والنجاح الإعراض عن لغو الكلام
يقول سبحانه:
((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون َالَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ))،
وقد وصف الله عباده بعدة صفات،
ذكر منها أنهم يكرمون أنفسهم فيبتعدون
عن كل مجلس فيه لغو، يقول الله سبحانه:
((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً))،
وأوصى رجل ابنه فقال:
"يا بني إن كنت في قوم فلا تتكلم بكلام
من هو فوقك فيمقتوك،
ولا بكلام من هو دونك فيزدروك"،
إن المؤمن الذي يمسك لسانه عن فضول الكلام
يدخل الجنة بسلام،
فمن وسائل النجاة في الدنيا والآخرة
الصمت وحفظ اللسان،
سأل عقبة بن عامر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم- : ما النجاة؟ قال:
((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك)).
اشغلوا أوقاتكم بما ينفعكم،
واصرفوا عمركم فيما هو مفيد ونافع لكم
في الدنيا والآخرة تسلموا وتغنموا.
::الصمت فن ::
حاول إتقانه ولن تفشل أبدا
في تحقيق ما تريد
في أي وقت وفي أي موقف