منزلة الشهادة في الدين
الحمد لله الذي رفع منازل الشهداء في دار البقاء، أحمده سبحانه حث عباده على التضحية والبذل والفداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، خير من بذل من نفسه وماله لله فأحسن وأجزل العطاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الكرام النجباء، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، فإن تقوى الله خير زاد يصحب المرء في حياته الدنيا، وفي سيره إلى الله والدار الآخرة. أيها المسلمون! إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة تستلزم تضحيات كبرى مكافأة لها، ولا ريب أن سمو الأهداف، ودرك المقاصد، ونبل الغايات، يقتضي سمو التضحيات وشرفها، ورقي منازلها، وإذا كانت أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى، ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم، فإن الذود عن حياض هذا الدين، والذب عن حوزته، والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته تتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان. ثم إن للتضحيات ألواناً كثيرة، ودروباً متعددة، لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس وبذل الروح رخيصة في سبيل الله؛ لدحر أعداء الله ونصر دين الله، وذلك هو المراد بمصطلح الشهادة والاستشهاد. ولقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جهده، واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم، وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثم في نفوس أمته من بعدهم، سالكاً في ذلك مسلكين: أحدهما: مفتاحهم بيِّن، وإيضاحهم جلي، لما يعتمل في ذات نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة، حمله على التمني أن يرزق بها مرات متعددة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وإنها لأمنية ويا لها من أمنية، كيف انبعثت من هذا القلب الطاهر! معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق، والشوق الغامر، إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم. والمسلك الثاني في تبسيط مفهوم الشهادة وإحيائها في القلوب وبعثها في النفوس: فقد ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السنة الشريفة، من بيان محكم، وإيضاح دقيق، لفضل الشهادة، ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر، وفي الطليعة من ذلك بيان صفة حياة الشهداء عن ربهم. فعن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه . ومنها: إن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة -والدفعة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدم وغيره- ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه) وفي لفظ: (من أهل بيته) أخرجه الترمذي و ابن ماجة في سننهما بإسناد صحيح. ومنها: أنه يخفف عنه نصف الموت، حتى أنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة، فقد أخرج الترمذي و النسائي و ابن ماجة في سننهم، وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة). ومنها: أن دار الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين آتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا لي: أما هذه فدار الشهداء). ومن ألوان الكرامة أيضاً: أن الملائكة تظله بأجنحتها، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أي: شهيداً يوم أحد - قد مثل به، فوضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت صائحة فقال: لِمَ تبكين؟! فلا تبكي ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها). ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة هو الذي يحب أن يرجع إلى الدنيا، كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) وفي رواية: (لما يرى من فضل الشهادة) أخرجه البخاري ومسلم